Site icon EGYCommunity

كيف بدأ اقتصاد الجمهورية الجديدة … وإلي أين؟

 

بقلم: د. محمد شادي

واجهت الدولة المصرية فيما بعد ٣٠ يونيو تحدي وجود، نتج عن انخفاض الإيرادات وارتفاع النفقات، بسبب تراجع أداء القطاعات الاقتصادية الأساسية، وهو ما أسفر في النهاية عن تراجع لمُعدلات النمو الاقتصادي صاحبه في الوقت ذاته مستويات زيادة سُكانية من بين الأعلى في العالم، ولجسامة التحدي، فقد كان على الإدارة المصرية أن تواجهه بفلسفة تدمج بين محاور ثلاثة؛ أولها إقالة مُحركات النمو من عثرتها في المدى القصير، ثم التمهيد لبناء أنواع جديدة من القطاعات تعمل مع القطاعات القديمة في المدى المنظور، وتستبدلها في المدى الطويل، وفي هذا الإطار الثُلاثي دارت كامل عملية الإصلاح، واثبتت فلسفتها حتى تُمهد لهيكل اقتصادي يليق بالجمهورية الجديدة.

الضلع الأول: إزالة عوائق النمو: 

قبل الانخراط في عملية إقالة القطاعات الاقتصادية الأساسية، كان يجب تمهيد البيئتين المالية والنقدية اللتين ستنمو تحت مظلتيهما تلك القطاعات. ولذا، جرت إعادة هيكلة لأبواب الموازنة العامة للدولة بأن أُفسح المجال أمام إيراداتها لتنمو بمُعدلات أسرع. فيما جرت السيطرة على مصروفاتها الاستهلاكية المُقسمة أساسًا على أبواب الأجور، الفوائد والدعم، وقد نال الأخير مُعظم الجُهد بعد التحول من دعم المواد البترولية التي استحوذت على ٦٤٪ من مُجمل الدعم في العام المالي ٢٠١١/ ٢٠١٢، لتتحول إلى أقل من ١٧٪ خلال العام المالي ٢٠١٩/٢٠٢٠. الأمر الذي أتاح للدولة هامشًا كبيرًا للتوسع في الدعم النقدي، بغرض مُعادلة ضغوط انخفاض القوى الشرائية الناتجة عن عملية الإصلاح.

على الجانب النقدي، اتُخذت كذلك عديد من الإجراءات لاحتواء الضغوط على الاحتياطي النقدي المصري، وتبعاته من ارتفاع سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وما أدى إليه تواترهما من انهيار الاحتياطي النقدي من ٢٥ مليار دولار إلى ١٦ مليار دولار لدى تسلُّم الرئيس مقاليد الأمور، وهو ما أدى إلى ارتفاع متوسطات مستويات التضخم إلى نحو ٣٠٪ في عام ٢٠١٧، وهو أعلى مُعدلاته في أربعين عامًا، ما استوجب في النهاية تحرير سعر الصرف لاحتواء هذه الضغوط بطريق عودة تدفقات النقد الأجنبي، سواءً من المصريين العامليين في الخارج أو المُستثمرين الأجانب الذين أحجموا عن ضخ مزيد من الاستثمارات بسبب ازدواج سعر الصرف، وموجات التضخم العاتية التي ضربت الاقتصاد في حينه.

نجحت الخطوتان في النهاية؛ بحيث بدأت أسعار الصرف في الاستقرار حول مُعدلات ١٨ جنيه للدولار الواحد، ثم أخذت في التراجع التدريجي لتدور حاليًا حول 15,5 إلى ١٦ جنيه للدولار. كذلك بدأت مستويات التضخم في الاستقرار على إثر استقرار سعر الصرف وتوافر المواد الغذائية، بالإضافة إلي تأثير سنة الأساس. أدت الخطوات على الجانبين النقدي والمالي إلى تمهيد الطريق لاستعادة القطاعات الأساسية من جديد، وهو ما ينقلنا للنقطة التالية.

الضلع الثاني: استعادة القطاعات التقليدية:

يعمل قطاعي التشييد والبناء، والسياحة كقاطرتين للاقتصاد المصري لا غنى عنهما للنمو، وقد أسفرت أحداث ما قبل يونيو إلى تراجع قُدراتهما حتى على النمو الذاتي فضلًا عن دفع الاقتصاد بكامله، وذلك نتيجة عدم الاستقرار الأمني والسياسي من ناحية، وارتفاع مخاطر الأعمال ومُطاردة رجال الأعمال من ناحية أخرى. لذلك، تكاتفت جهود الإدارة ووزارتها المختلفة لدفع قطاع التشييد والبناء، وذلك بتدشين العمل في تطوير المُدن القديمة واستعادة كفاءة مرافقها الداخلية من حدائق وطرق ومستشفيات وقصور ثقافة ومسارح بعد أن طالتها أياد الإهمال لسنوات، وهي أعمال قامت بتحفيز مبدئي لقطاع التشييد، تلي ذلك تدشين برنامجين في غاية الضخمة أدي إلى استعادة القطاع لكامل نشاطه:

أولهما، البدء في تشييد المُدن الجديدة في الظهير الصحراوي للمُدن القائمة بالفعل، بما يُتيح حجم أعمال ضخم للقطاع يُتيح لجميع الشركات سواء العامة أو الخاصة المُشاركة؛ بحيث تستعيد فرص العمل التي فقداتها إبان فترات عدم الاستقرار، وفي ذات الوقت تعمل على تشغيل سريع واسع النطاق للصناعات المُغذية للبناء، من أسمنت وحديد ودهانات وأثاث وغيرها. وفي ذات الوقت يسمح بزيادة الرقعة المعمورة، ويُوفر مساكن لائقة لآلاف الأسر التي سكنت العشوائيات على أطراف المُدن القديمة. وبالإضافة إلى ذلك، منح القُدرات التنفيذية والخبرات العملية لهذه الشركات، بغرض استخدامها فيما بعد بتوسع فيما يُعرف الآن بدبلوماسية إعادة الإعمار، التي من خلالها أتيح للشركات المصرية الخروج للعمل في الإقليم سواءً في الدول العربية، وعلى وجه الخصوص في العراق وليبيا.

كذلك لم يكن تأسيس المُدن الجديدة مُنبت الصلة عن عمليات تأسيس الاقتصاد المصري في شكله الجديد؛ بحيث يعتمد على تصدير الطاقة المُتجددة، وتقديم خدمات الاتصالات السريعة اعتمادًا على موقع مصر الاستراتيجي. لذلك رُعي في تأسيس هذه المُدن بُعدي استخدام الذكاء الاصطناعي في السيطرة على المرافق التنبؤ بالأزمات والتدخل لحلها، وأفضل الأمثلة على ذلك هو المركز الوطني للتحكم في الشبكة القومية للكهرباء بالعاصمة الإدارية.

أما البرنامج الثاني، فقد تمثل في استعادة كفاءة البنية التحتية ورفع كفاءتها تمكينًا لقطاع التشييد والبناء، وإكسابًا له للخبرات بذات المفهوم السابق، وفي الوقت ذاته التمهيد للاقتصاد الجديد الذي لم يكُن من المتصور أن يبدأ في ظل انقطاعات مِستمرة للكهرباء والمياه وطُرق ضيقة شديدة الازدحام، ولذلك انصب البرنامج على التخلص من هذه المُشكلات في الحاضر والمُستقبل، وعليه فقد جرى تشييد المحاور المرورية الطولية والعرضية على كامل الإقليم المصري، بتكنولوجيات جديدة، سمحت بنقل مصر على مؤشر كفاءة الطُرق من مُستويات ما بعد المركز (100) إلى المركز (٢٨).

بالإضافة إلى ذلك، رُفعت القدرات المصرية على توليد الكهرباء عبر إنشاء محطات توليد جديدة أهمها على الإطلاق ثلاثية الدورة المُركبة؛ بحيث ارتفعت القدرة الكُلية من ٣٢ جيجا وات إلى ٥٦ جيجا وات، بفائض يصل إلى ٢٥ جيجا وات. يجري تصديرها في الوقت الحالي إلى الأردن ولبنان وليبيا، ويجري الإعداد لنقلها إلي قبرص ومنها إلى أوروبا. كذلك جري رفع المُتاح من المياه عبر بناء محطات تحلية مياه البحر ومُعالجة مياه الصرفين الصحي والزراعي بنحو 1,6٪ من إجمالي الحصة النيلية وذلك بإجمالي ١ مليار متر مكعب من المياه تقريبًا.

الضلع الثالث: التمهيد للمُستقبل بدعم القطاعات الجديدة

بعد استعادة التوازن في القطاعات القديمة، تحركت الإدارة للتمهيد للقطاعات الرئيسية الجديدة التي ستستبدل قطاعي التشييد والبناء والسياحة في المستقبل على رأس مُحركات النمو؛ وهي على وجه التحديد تصدير الطاقة الكهربية النظيفة والصناعات المُتعلقة بها والمُغذية لها. وقد قامت الإدارة بخطوات تشريعية داخلية واتفاقات دولية لتعزيز موقفها كمركز إقليمي لتداول الطاقة وخصوصًا الكهرباء؛ حيث أصدرت قانوني تداول الغاز والكهرباء، بالإضافة إلى اتفاقات للربط مع المملكة العربية السعودية وقبرص والسودان عبر كابلات تمر بالبحرين الأحمر والمتوسط عبر الشبكة القومية المصرية للكهرباء، وهو ما يسمح بتأسيس صناعات مُغذية لمشروعات الطاقة المُتجددة؛ مثل البطاريات والكابلات ألواح الطاقة الشمسية ومرواح الرياح وزعانفها، وصناعات لصيقة بها مثل السيارات الكهربية، وأجهزة شحناها، بما ستؤدي مُحصلته إلى توفير تدفقات نقدية كافية لتحويل عجزي الموازنة العامة للدولة والميزان التجاري إلى فوائض في المُستقبل، يُمكن توجيهها إلي التعليم والصحة والبحث العلمي، وتطوير مزيد من القطاعات الصناعية.

مُحصلة ما سبق إذن أن فلسفة الإصلاح في السنوات السبعة الماضية استهدفت تأمين المُستقبل وإعادة صياغة الاقتصاد المصري، وذلك عبر حماية القطاعات الاقتصادية الحالية وإقالتها حتى يفتح الباب واسعًا لقطاعات وصناعات مُستقبلية تضمن مُستقبل الأجيال القادمة في حياة أفضل ضمن مُدن أفضل، تدعمها بنية تحتية أفضل، تخدم قطاعات اقتصادية أكثر تطورًا وأكثر طلبًا في المُستقبل، بما يليق «بالجمهورية الجديدة».

Exit mobile version