بقلم: أسماء رفعت
في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها البيئة الدولية وما فرضته من تداعيات أدت إلى اختلاف مفاهيم القوى الفاعلة واستخدام أدوات القوى الناعمة. جاءت الثقافة لتكون بمثابة محركًا اقتصاديًّا، وباتت العلاقة بين الثقافة والاقتصاد أحد سمات العصر الحديث. فظهر الاقتصاد الإبداعي كأحد النماذج الاقتصادية الجديدة. وخصصت الأمم المتحدة عام 2021 للاقتصاد الإبداعي، او ما أطلق عليه الاقتصاد البرتقالي La Economía Naranja، وهو يضم الأنشطة الاقتصادية التي تجمع بين الموهبة والإبداع والتكنولوجيا والثقافة، وتحولها إلى سلع وخدمات تساهم في زيادة معدلات النمو الاقتصادي، فضلاً عن دورها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وقد تم إطلاق مصطلح الاقتصاد البرتقالي لأول مرة من خلال كلٍّ من «فيليبى بويتراجو ريستريبو» و«إيفان دوكى ماركيز»، في كتاب «الاقتصاد البرتقالي: فرصة لا حصر لها»، وتم استخدام لفظ «برتقالي» على هذا النوع من الاقتصاد؛ نظرًا لأن اللون البرتقالي كان يعد رمزًا للثقافة والإبداع والهوية عند المصريين القدماء. وقد ساهم الاقتصاد البرتقالي في إنعاش الاقتصاد في كولومبيا، وكان المحرك الأساسي لتحقيق التنمية في أمريكا اللاتينية؛ فبعد عقود من الحروب والصراعات استطاعت اقتصادات أمريكا اللاتينية تحقيق عائدات مالية كبيرة نتيجة الاستفادة من تراثها وابداع شعوبها.
وتشمل أنشطة الاقتصاد البرتقالي تلك الأنشطة التي تجمع بين الفنون والتراث والصناعات الإبداعية والابداعات الوظيفية؛ فتضم قطاعات الأفلام والتليفزيون وصناعه السينما والموسيقي والعروض البصرية والكتب والنشر وقطاعات الأزياء والتصميم والحرف اليدوية والهندسة المعمارية والإعلان وتطوير البرمجيات والألعاب الإلكترونية وكذلك الأنشطة السياحية والرياضية بما تتضمنه من فعاليات.
ويبلغ حجم إنتاج الصناعات الثقافية والإبداعية 2250 مليار دولار عالميًّا بما يمثل نحو 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويعمل به نحو 30 مليون عامل، وقد بلغت إيراداته 509 مليار دولار عام 2015 مقارنة بنحو 208 مليار دولار عام 2002، وهو الأمر الذي يشير إلى أهمية دور تلك الأنشطة في دفع معدلات النمو الاقتصادي. وتتميز أنشطة الاقتصاد البرتقالي بأنها لا تحتاج إلى مواد أولية لإنتاجها، وإنما تتطلب فقط توفُّر رأس مال بشري مبدع قادر على التطوير والتحديث والابتكار، كما تتسم أيضًا بأنها لا تخلف نفايات ضارة بالبيئة، فضلاً عن دورها في التأثير على ثقافة الشعوب وبناء منظومة القيم بما يحقق تماسك اجتماعي ويغير صورة الدولة التي تتبناه. ومن ثم، تتضح أهمية الاقتصاد البرتقالي، ليس فقط في دفع معدلات النمو الاقتصادي العالمي وإنما في تعزيز تحقيق اهداف التنمية المستدامة بمحاورها الثلاث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
وفي ظل ما يشهده العالم من أزمات اقتصادية او غير اقتصادية من شأنها التأثير على الاقتصاد العالمي، فإن الاقتصاد البرتقالي أقل تأثرًا بتلك الأزمات، وأقل عرضه للكساد وتقلبات السوق، بل على العكس فقد أثبتت أزمة جائحة كورونا أهمية هذا الاقتصاد؛ إذ أدت الإجراءات الاحترازية والتباعد الاجتماعي إلى توقف عديد من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية التقليدية وتوقف حركة التجارة الدولية للسلع والخدمات، فتم التوجه نحو تطوير الإنتاج الإلكتروني والمحتوى الرقمي، وكذلك تطوير صناعة الترفيه من خلال ابتكار وسائل إلكترونية للترفيه، وتطوير أساليب للسياحة الافتراضية، كما تم تصدير تلك الأعمال الإبداعية عبر الحدود. وقد حققت شركة «نتفليكس» ٥٠٨ مليارات دولار خلال الربع الأول من عام ٢٠٢٠، و٧١٦ مليار دولار في الربع الأول عام ٢٠٢١.
وعلى صعيد الدولة المصرية، فإن مصر تحظى بقدرات تؤهلها لتطوير عديد من الأنشطة الإبداعية والثقافية من خلال الاستفادة من ثرواتها البشرية التي تزيد عن 100 مليون نسمة وتراثها وحضارتها الممتدة لأكثر من سبعة آلاف عام. ولعل موكب نقل المومياوات الذهبي بكل عناصره التاريخية والإبداعية والفنية جسد نموذجًا رائعًا لثروات مصر، وقدراتها على التحول إلى مجتمع معرفي مبدع قادر على استخدام أدوات القوى الناعمة في التأثير محيطها الإقليمي، وقدراتها على احتلال مكانة متميزة في الاقتصاد البرتقالي. وتشير الإحصائيات إلى ان مصر تحتل المرتبة 28 من 726 دولة في مجال السلع الإبداعية عام 2018 في دليل الابتكار العالمي.
وبإلقاء نظرة مستقبلية على الاقتصاد البرتقالي، فإنه متوقع له أن يحتل مرتبة رابع اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، وتاسع أكبر مصدر، ورابع أكبر قوة عمل تقدر بنحو 144 مليون عامل في وظائف مباشرة وغير مباشرة،
ومن ثم، يتضح مما سبق أهمية التوجه نحو زيادة حجم الإنتاج والصادرات من السلع والخدمات الإبداعية والثقافية، ليس فقط لدفع معدلات النمو الاقتصادي، وانما لدعم جهود التنمية المستدامة، وزيادة فعالية أدوات القوة الناعمة.
