بقلم: إسراء عبدالله الصياد
إذا اشتهيت وجبة غذائية صحية وشهية، فأول ما قد يتبادر إلى ذهنك هو «وجبة الأسماك». فتخرج في جولة بسوق الأسماك لتختار بين عدة الأنواع المتنوعة، وفور أن تستقر على النوع الذي ترغب شراءه، تبدأ في رحلة التفاوض (أو الفِصال) على السعر، لتسمع الجملة الأشهر بين البائعين «ده مش سمك مزارع يا إفندي؟!». ولكن دعنا نتوقف هنا لحظة؛ ما أسماك المزارع؟ وكيف يتم استزراعها؟ ولماذا نقيمها في المرتبة الثانية عند المقارنة بالأصناف الأخرى؟ وهل نحن محقين في ذلك؟
ونجيب أولاً بأن المزرعة السمكية كمفهوم هي أحد الحلول لزيادة الإنتاج السمكي. وفيها تتم تربية الأسماك في مساحات معينة، سواءً أحواض ترابية أو خرسانية او أقفاص، تتوافر بها الظروف المثالية للحصول على أفضل إنتاجية وتقديم بروتين حيواني بسعر مناسب. وللاستزراع السمكي عدة طرق؛ منها «الأقفاص العائمة»؛ حيث يتم استغلال الموارد الطبيعية المائية بتخصيص أقفاص تحتوي على عدد من الأسماك يتم رعايتها، وتغذيتها بعلف إضافي ليصل لوزن مثالي في وقت قصير وزيادة الإنتاجية. وطريقة أخرى من الاستزراع، وهي الأشهر تخصيص أحواض سمكية يتم إنشائها بعيدًا عن المصادر المائية الطبيعية كمكان إضافي لتربية الأسماك، ويتم توفير كافة احتياجات الأسماك من رعاية طبية بيطرية وكامل احتياجاته من العلف.
ورغم أن المصريين يتجنبون أسماك المزارع، كلما استطاعوا، باعتبارها أمرًا دخيلاً ومستحدثًا، إلا أنهم لا يعلمون أن استخدام الاستزراع السمكي يعود إلى قديم الأزل. فقد عُثر على رسوم في إحدى المقابر الفرعونية يعود تاريخها إلى ٢٥٠٠ قبل الميلاد، توضح حصاد الأسماك البلطي من الأحواض السمكية، ثم تطور الأمر إلى ما يسمي بنظام «الحوشة» بالقرب من البحيرات الشمالية. وقد شهدت الثلاثينات من القرن الماضي نقلة نوعية بإدخال أسماك المبروك العادي الي النظام البيئي المصري، من خلال إنشاء مزرعتين تجريبيتين لأغراض بحثية فقط لمقاومة قواقع المياه العذبة، حتى أُنشئت أول مزرعة مكثفة في أول الستينات لتربية أسماك البلطي النيلي، والمبروك العادي، والبوري البياح مع مراعاة درجة الحرارة ونسبة الأكسجين بالمياه ودرجة الملوحة وخصائص المياه الأخرى.
وربما يتبادر إلى الأذهان أن المزرعة السمكية تقتصر على نوع واحد من الأسماك، ولكن في الحقيقة يمكن استزراع أكثر من نوع واحد للاستفادة من عمود المياه؛ حيث أن بعض الأسماك تعيش بالقرب من السطح، وبعضها يعيش بالقرب من القاع. لكن يجب مراعاة عدم الدمج بين نوعين أحدهما مفترس حتى لا يلتهم الأسماك الأخرى. كما يمكن أن يتم الدمج بين الزراعة الحقلية واستزراع الأسماك للاستفادة من تواجد المياه بشكل دائم طوال فترة زراعة المحاصيل، مثل الأرز، وبعمق مناسب لاستزراع أنواع أسماك معينة مثل أسماك المبروك، هذا بالإضافة إلى تشجيع المزارعين على ذلك لتوفير احتياجاتهم البروتينية.
كما أن مشروعات الاستزراع السمكي تتكامل مع الاستصلاح الزراعي وزيادة الرقعة الزراعية من خلال نظام الزراعة التكاملية بين النبات والأسماك، ويُسمى «الأكوابونيك». وهو عبارة عن إنشاء أحواض خرسانية يتم فيها استغلال المياه في تربية الأسماك، ومن ثم ري المحاصيل بها، وإن أمكن، تستخدم هذه المياه مرة أخرى في الأحواض السمكية. ويعمل على هذا النظام زيادة المواد النيتروجينية كسماد طبيعي للنباتات، وإنتاج مزروعات عضوية. ومن ناحية أخرى، فإن إمكانية إعادة المياه للأحواض مرة أخرى، بعد تنقية النباتات المواد العضوية بها، يوفر الحماية للأسماك المستزرعة من الأمراض. وهو أيضًا وسيلة تزيد الإنتاجية الزراعية بمقدار الثلث.
ويأتي الاستزراع السمكي كواحدة من مراحل سلسلة الإنتاج والتصنيع. وتبدأ هذه السلسلة الإنتاجية بمرحلة «المفرخات السمكية». التي تدعم «الاستزراع السمكي» لأسماك المياه العذبة، وذلك بتوفير الزريعة الكافية لها. إلا أن توفير الزريعة لأسماك المياه المالحة يعد تحديًّا؛ حيث ظل الاعتماد الأكبر لوقت قريب على جمع الزريعة من البحار المصرية، واستزراعها في المزارع المخصصة. لكن عملت الدولة جاهدة للتغلب على تلك الفجوة لزيادة الإنتاج السمكي من الأسماك البحرية، وأنشئت عدة مفرخات أبرزها «مفرخ الكيلو 21» بالإسكندرية. وفي حديثنا عن سلسلة الإنتاج والتصنيع، لا نغفل دور «شركات تصنيع الأسماك»؛ مثل الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية، وشركة قناة السويس للاستزراع السمكي، وشركة مصر/أسوان لصيد وتصنيع الأسماك. وجدير بالذكر أن هذه المراحل الثلاثة توفر عديد من فرص العمل، بالإضافة لمراكز الأبحاث المسئولة عن إنتاج أحياء مائية أكثر قدرة على مقاومة الأمراض ولديها معدل تحويل غذائي سريع.
وطبقًا لتوجيهات السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، تولي الدولة المصرية اهتمامًا كبيرًا بالتوسع في الاستزراع السمكي لسد الفجوة الغذائية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسماك. وتحتل مصر حاليًّا المركز الأول في إفريقيا، والسادس عالميًّا في الاستزراع السمكي. لكن لايزال الإنتاج لا يلبي احتياجات السوق. ولذلك تم إنشاء مشروع بركة غليون، فضلاً عن المزارع السمكية في قناة السويس، وقد تزامن ذلك مع تطوير البحيرات الشمالية وبحيرة ناصر لزيادة إنتاجيتها من الأسماك.
ولكن يظل السؤال الأهم والصراع الأبرز: أيهما أفضل الأسماك المستزرعة أم الحرة؟ والحقيقة أن لكل منهما مزاياها. فالأسماك المستزرعة يسهُل وقايتها من الأمراض، خاصة الأمراض المشتركة، ويسهل زيادة إنتاجيتها والحفاظ على جودتها؛ بينما تقع الأسماك الحرة عرضة لكافة الظروف البيئية من الإصابة بأمراض والتأثر بجودة المياه وإمكانية عدم توفر التغذية المناسبة لها. إلا أن حرية الأسماك الحرة تحررها من الضغوط التي قد تؤثر علي جودة الطعم، ولذلك طعمها هو الأكثر قابلية واستساغة لدى المستهلك. ولكن مع اهتمام الدولة بتطوير مشروعات بالاستزراع السمكي وفقًا لمعايير علمية مدروسة وأحدث التقنيات، قد يَحدث تغيير جذري ونقلة نوعية في جودة طعم الأسماك المستزرعة، بما يجعلها تفوز بالمنافسة على الأسماك الحرة.