Site icon EGYCommunity

زراعة الأعضاء: من رحم الآلام يُولد الأمل

بقلم: ندى ماهر الدمياطي

استشاري أمراض الجهاز الهضمي والكبد و زراعة الكبد

«من رحم الآلام يولد الأمل» تلك الجملة التي أراها تمر أمام أعيني دائمًا مع كل مريض يأتيني ليبدأ رحلته الشاقة مع زراعة الأعضاء بكل مراحلها. رحلة صعبة معنويا وماديا علي المريض، بل وعلي أسرته أيضًا؛ فهم دائمي السعي وراء بصيص من الأمل يطوى فرصة جديدة لحياة جديدة، داعين الله عز وجل أن يكلل جهودهم بالنجاح.

ولمن لا يعرف زراعة الأعضاء؛ هي عملية جراحية يتم فيها استبدال عضو سليم قادر على تعويض الجسد عما أضر به، بدلاً من عضو مريض فقد قدرته على أداء الوظيفة المنوط بها؛ حتي يستطيع الإنسان استكمال حياته بشكل طبيعي إلى حد كبير. أما عن الأعضاء التي يمكن زراعتها؛ فهي كثيرة مثل الكبد، والكلي، والقلب، والرئتين، والبنكرياس، والأمعاء، والعيون، والنخاع، علي سبيل المثال وليس الحصر. ونجد أنه من عظمة الخالق سبحانه وتعالى أنه أوجد لكل داء دواء، و نحن كأطباء لانزال نحاول اكتشاف معجزات الله التي تتجلي أمامنا بوضوح شديد في عظمة خلقه لجسد الأنسان بكل تفاصيله. فهل تعلم أنه يمكن لجسد واحد أن ينقذ أكثر من عشر أشخاص، أي عشر أسر، أي عشر أحلام للحياة وللمستقبل!

وحينما كنت بفرنسا للحصول على درجة الدكتوراه منذ ثلاث سنوات، وأنا أعمل بإحدى أكبر مراكز أمراض الجهاز الهضمي والكبد وزراعة الأعضاء، استوقفتني حالة مريضة لن أنساها طالما حييت وهي الملاك البالغة من العمر19 عامًا، آنذاك. كانت تعاني من مرض مناعي شديد الصعوبة يهاجم أعضاء الجسد، تحديدًا الكبد والكلي. وبدأت رحلتها الشاقة مع هذا المرض اللعين في بلدها الأم منذ أكثر من 10 سنوات، وبذلت أسرتها كل الجهد لعلاجها دون اللجوء للسفر للخارج؛ نظرًا لضعف الإمكانات المادية. ولكن للأسف لم يكن العائق المادي هو المشكلة الأساسية، بل واجهتهم عراقيل أكبر بكثير، نعاني منها نحن في مجال زراعة الأعضاء كدول عربية بالشرق الأوسط. وهي مشكلة عدم تشريع قانون للتبرع بالأعضاء بعد الوفاة، وبالتالي قلة توافر المتبرعيين الأحياء، بالإضافة إلى وجود نقص شديد في الفرق الطبية المدربة علي أداء تلك الملحمة مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف العلاج. 

وبعد أن غُلقت كافة السبل المتاحة في بلدها الجميل، فما كان لهذه الطفلة إلا أن تسعى أسرتها بكل ما تستطيع للاستعانة بحملات للتبرع ومناشدة الدولة للمساعدة في سفرها للخارج بعد 10 سنوات من الكفاح مع مرضها الذي أنهك جسدها، وأضاع أجمل أيامها في الآلام. تدهورت الحالة بشكل سريع، وأصبحت بحاجة عاجلة لزرعة كبد جديد، ومع وصولها للمركز الذي أعمل به، تم تسجيلها على الفور بقائمة الحالات الحرجة التي تحتاج لزراعة كبد في أسرع وقت ممكن. وعلي الرغم من كونها أجنبية الجنسية إلا أنها حصلت بالفعل علي الكبد الجديد من متوفي، وخرجت إلى غرفة العناية المركزة حيث كنت أباشر مهام عملي. وإذ بها تتألم ولا تستطيع التحدث إلا باللغة العربية، والقليل من الإنجليزية. وبالطبع الممرضات الفرنسيات لا يفهمن ما تقوله، فمنذ تلك اللحظة ربطني بها شئ غريب فقد شعرت وكأنني أنا المسئولة عنها، خاصة بعد أن علمت أنها وحدها بالمركز، وليس معها إلا والدتها التي لا تتحدث سوى العربية. 

وبمرور الوقت ربطتني بتلك الطفلة علاقة صداقة والتزام، وليس بصفتي طبيبة بل من وازع إنساني. فكنت دائمة المرور عليها، أتحدث معها واستمع لأحلامها البسيطة كالعودة الي اللعب مجددًا مع أخواتها بحديقة المنزل بوطنها الغالي. ومرت الأيام ولاتزال الطفلة تتلقى علاجها بالمستشفي؛ بعد أضر المرض المناعي بالكلي وبعد انتظار قرابة العام وهي تداوم علي الغسيل كلوي، جاء موعدها مع جراحة أخري كبيرة، وهي زراعة كلية جديدة من متبرع متوفى، وخرجت الطفلة وكل نظراتها مفعمة بالأمل مجددًا في أن تمر تلك الأيام التعسة لتعاود حياتها من جديد. مرت الأيام ولكن ساءت حالتها مجددًا؛ حتى قامت بزراعة كبد للمرة الثانية من متبرع متوفى أخر. 

وستظل رحلة كفاح هذه الطفلة، صديقتي الصغيرة، حية في ذاكرتي، ولن أنسى وعدها لي بزيارة مصر في القريب العاجل لحضور مناقشتي لرسالة الدكتوراه، وحبها الشديد لمصر. فكانت تطلب مني هدايا مصرية أصيلة في كل مرة أبلغها بسفري إلى مصر. ومر قرابة العامين، وأنا والطفلة معًا ننتقل من مستشفى إلى الأخرى، وأنا معها لست كطبيبة هذه المرة، ولكن كأخت وصديقة. حتي جاء اللقاء الأخير وهي تودعني بهدايا جميلة من بلدها كانت قد طلبتها لي خصيصًا مع أحد أقاربها حتي أظل أتذكرها. 

ورحلت عنا صديقتي بروحها بعد أن أوصت والدتها بأن تتبرع بأعضائها لأي مريض، وقبل أن تغادر بجسدها للعودة الي مسقط رأسها. كانت قد تبرعت بعينها العسلية اللامعة إلى طفل يبلغ من العمر خمس أعوام في الحدود الجنوبية لفرنسا. ذهبت الطفلة وتركت لي درسًا لن أنساه، وهو روعة العطاء حتى بعد الموت. وجعلتني في تمام الإصرار والعزيمة على نشر هذا العطاء وتحقيقه في بلادنا من منطلق الغيرة والخوف علي بلادنا ومرضانا. فلماذا لا يوجد قانون زراعة أعضاء كما يوجد بهذه البلدان؟ لماذا لا نستطيع نحن خلق وتقنين هذا النظام مثلهم. فلا ينقصنا أبدًا العلم ولا الإمكانات، بل ينقصنا عزيمة وخطة واضحة لإنشاء شبكة أعضاء مثلما يمكلون هم. فماتت صديقتي بإحدى مستشفيات باريس، وبعد سويعات قليلة كانت عيناها تطل بجسد طفل  آخر في جنوب فرنسا. فما هذا التحضر وما هذا الشعور بالرحمة!

فمن وجه نظري المتواضعة، الطب هو أسمى المهن، وباب من أبواب رحمة الله علي البشرية. فماذا لو كانت هذه الطفلة قد خضعت لجراحة زراعة الكبد في بلدها منذ أكثر من 10 سنوات! فلعلها كانت الآن طبيبة كما كانت تحلم دائمًا، تتمتع بصحة جيدة وتأدي دورها في خدمة البشرية. ولايزال هناك آلاف المرضى بأوطانهم ينتظرون إما الموت أو الوقوع تحت يد مافيا تجارة الأعضاء أو السفر للخارج للحصول علي عضو من متبرع من دولة أخرى؛ لأننا لا نريد إدراك مدى أهمية هذه المنظومة وأهمية الإسراع في تطبيقها، وتذليل كل الصعاب التي تواجهها. 

رحمة الله عليكي صديقتي وعلى كل صديق لا أعرفه مات من عجز الفكر وضيق الأفق. رسالتي التي أؤمن بها هي أننا خلقنا لنزرع الأمل في قلوب من حولنا حتى ولو كان صعب الوصول له فيكفينا دائمًا شرف ومتعة السعي نحو تحقيقه. فالنعم لا يدرك قيمتها إلا المحروم أو المنتظر، أو من تعامل مع الاثنين كمثلنا نحن الأطباء. لذلك وجب علينا لفت النظر والتنبيه بأهمية هذا الموضوع.

Exit mobile version