بقلم: أحمد حسن
لم يكن لأحد أن يتصور أن تكون الصحة النفسية؛ إحدى ركائز الصحة العامة، مسألة هامة يتم نقاشها في كتابات الاقتصاديين، فضلاً عن أن تكون قضية مطروحة على طاولات صناع السياسات الاقتصادية العامة، وكذلك رواد الأعمال. ولكن القرن الواحد والعشرين، بتحدياته اللامتناهية وتطوره اللامحدود، جعل من التنافسية الاقتصادية والتجديد والابتكار المستمر، سبيلاً وحيدًا للبقاء في السوق الاقتصادي العالمي.
وتبع زيادة حدة التنافسية الاقتصادية وتطور الاقتصاد العالمي على النحو السابق ذكره، زيادة في الضغوط النفسية على العاملين وأصبح العنصر البشري عرضة للإرهاق والضغط النفسي الكبير نتيجة الحرص المستمر على زيادة الكفاءة والعمل على زيادة معدلات الإنتاج لملاحقة التطور المستمر على نحو غير مسبوق في القرون السابقة.
والحق يُقال إن ذلك الأمر هو نتيجة حتمية للتطور التكنولوجي الهائل، وما نتج عنه من تطور في بيئات وأساليب العمل؛ مثل العمل عن بعد ولساعات طويلة، وربما مع فرق عمل غير متجانسة، أو في كثير من الأحيان مناخ عمل غير صحي لا يعترف إلا بالإنتاج كوسيلة وحيدة للتقييم ولاستحقاق الأجر ودون أي تقدير، وكذلك ظروف عمل غير مواتية وتغيب عنها عدالة الأجور في كثير من الأحيان. وكلها أمور تؤدي إلى تدهور وتفاقم الصحة النفسية للفرد العامل، وتؤدي إلى تدهور الإنتاج الاقتصادى كنتيجة نهائية لذلك.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن هناك عديد من العوامل الاجتماعية والنفسية والبيئية التي تحدد مستوى صحة الفرد النفسية في مرحلة ما. فمن المعترف به، مثلاً، أن استحكام الضغوط الاجتماعية الاقتصادية من المخاطر التي تحدق بالصحة النفسية للأفراد والمجتمعات المحلية. وتتعلق أكثر البيانات وضوحًا في هذا الصدد بمؤشرات الفقر، بما في ذلك انخفاض مستويات التعليم، وهناك علاقة أيضًا بين تدني مستوى الصحة النفسية وعوامل من قبيل التحوُّل الاجتماعي السريع، وظروف العمل المجهدة، والتمييز القائم على نوع الجنس، والاستبعاد الاجتماعي، وأنماط الحياة غير الصحية، ومخاطر العنف واعتلال الصحة البدنية، وانتهاكات حقوق الإنسان. كما أن هناك عوامل نفسانية وعوامل أخرى محددة لها صلة بشخصية الفرد تجعل الناس عرضة للاضطرابات النفسية.
ووفقًا لدراسة مشتركة بين منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، فإن الاضطرابات النفسية الشائعة تتزايد في جميع أنحاء العالم. فبين عامي 1990 و 2013، ارتفع معدل عدد الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق بنسبة ما يقرب من 50٪، من 416 مليونًا إلى 615 مليونًا. وتفيد الدراسة أن ما يقرب من 10٪ من سكان العالم مصابون، وتمثل الاضطرابات النفسية 30٪ من العبء الناجم عن الأمراض غير القاتلة على الصعيد العالمي.
ومما لا شك فيه أنه مع التطورات الاقتصادية الحالية وما تبعها من تزايد مسئوليات الدول نحو مواطنيها. فإن مراعاة الصحة النفسية وتعزيزها، بل وحمايتها للأفراد العاملين والحرص على تمتعهم بدرجة عالية من السلامة والعافية أصبحت أمرًا جوهريًّا ليتمكن الفرد العامل من بذل غاية جهده ورفع قدراته وللتكيف، مع الإجهاد وضغوطات العمل وبما يمكنه من الإسهام في مجتمعه بالقدر المطلوب ولا يحرمه في الوقت ذاته من التمتع بالحياة. ولعل أبلغ دليل يشهد لذلك ما توصلت إليه ذات الدراسة السابقة أن كل دولار يستثمر في تطوير علاج الاكتئاب والقلق يعود بفائدة تعادل أربعة أضعاف قيمته في شكل من أشكال تحسين الصحة والقدرة على العمل .
إن إهمال الصحة النفسية للأفراد العاملين له أثره السلبي المباشر على منظمات العمل التي يعمل بها هذه الأفراد، وتؤدى حتمًا إلى تقليل الانتاجية أو رداءة جودتها أو عدم قدرتها على التطور المستمر، وما يستتبعه من انخفاض تنافسيتها، وربما تؤدي إلى عدم قدرة المنظمة على البقاء في سوق العمل في النهاية. وكلما تعددت الحالات والمنظمات التي لا تراعي الصحة النفسية لأفرادها؛ فإن ذلك له أثره التدميري على اقتصاديات الدول التي تقع بها هذه المنظمات كنتيجة نهائية لذلك. وقد شهد التاريخ المعاصر وقوع عديد من الأزمات الاقتصادية،بل وانهيار وتفكك كثير من الدول المجاورة في منطقتنا بسبب غياب أو انعدام أطر السلامة النفسية للأفراد العاملين وهم القطاع الشعبي الأكثر تأثيرًا، وهو أمر بلا شك يدل على التكلفة البالغة لإهمال الصحة النفسية على الاقتصاد، بل ومقدرات الشعوب .