بقلم: عبد اللطيف فاروق
لم تكن ثورة 30 يونيو التي قام بها الشعب المصري انقاذًا للدولة المصرية ومؤسساتها من مستنقع الفوضى وبراثن الانهيار والتفكك على المستوى الداخلي فحسب، بل مثلت صحوة لضبط مسار الدور المصري خارجيًّا، وإعادة الاعتبار للدور الإقليمي والعالمي للدولة المصرية، والذي يمثل حجر زاوية الأمن والاستقرار الإقليمي في مواجهة موجات عاتية من الاضطراب والفوضى تضرب أرجاء الإقليم منذ عام 2011. فعقب انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيسًا للجمهورية في يونيو 2014، بدأت الدولة المصرية ومؤسساتها في عمل دؤوب إيذانًا ببدء عصر جديد يستهدف إعادة اكتشاف وتعظيم المصالح المصرية خارجيًّا، فجاءت القارة الإفريقية في مقدمة أولويات واهتمام القيادة السياسية المصرية لما تمثله للدولة المصرية من عمق استراتيجي وحيوي؛ حيث تُعد السياسة الخارجية المصرية تجاه إفريقيا من بواكير السياسات الخارجية التي رسمها حكام مصر منذ القدم. فتاريخيًّا، أخذ التواجد المصري في إفريقيا أشكالاً وأهدافًا عديدة سعت من خلالها الدولة المصرية إلى ترسيخ تواجدها في عمقها الاستراتيجي الجنوبي. وفي العصر الحديث، حملت مصر لواء الريادة دعمًا لأشقائها الأفارقة في التخلص من نير الاستعمار، مما رسخ الارتباط العضوي بين مصر وإفريقيا، إلا أن الدور المصري على الساحة الإفريقية قبل عام 2013 شهد تراجعًا ملحوظًا، الأمر خلق فراغًا ملؤه عديد من القوى الإقليمية والدولية المعادية الساعية لتحجيم الدور المصري في افريقيا، وفصل مصر عن محيطها الإفريقي.
التحرك الشامل: ملامح وسمات الاستراتيجية المصرية في إفريقيا
فور فوزه بمنصب رئيس الجمهورية، استهل الرئيس عبدالفتاح السيسي ولايته الرئاسية الأولى بوضع عودة مصر لمحيطها الإفريقي واستئناف عضوية مصر المُجمدة بالاتحاد الإفريقي على قمة أولويات تحركات الدولة المصرية الخارجية. فجاءت زيارته الخارجية الأولى للجزائر. ثم حضور قمة الاتحاد الإفريقي بغينيا الاستوائية، والتي شهدت استئناف عضوية مصر المُجمدة بالإتحاد الإفريقي؛ حيث وضعت الدولة المصرية خطة تحرك شاملة لتصحيح مسار العلاقات المصرية الإفريقية وعودتها إلى مربعها الصحيح مرة أخرى، وذلك عبر مجموعة من الأبعاد. فعلى الصعيد السياسي، سعى الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى انتهاج دبلوماسية القمم عبر تأكيد التواجد المصري في المناسبات القارية والدولية ذات الصلة بإفريقيا. وكذلك تعزيز العلاقات الثنائية مع الأشقاء الأفارقة. ولم تكتف مصر بذلك، بل سعت بكل ما لديها من أدوات دبلوماسية للدفاع عن المصالح والقضايا الإفريقية في كثير من المنابر الدولية. فجاء انتخاب مصر للعضوية غير الدائمة بمجلس الأمن ممثلة عن القارة الإفريقية عامي 2016 و2017، بمثابة اعترافًا بفاعلية الجهود المصرية على المستوى القاري. ثم، جاء انتخاب مصر كرئيس للاتحاد الإفريقي عام 2019 ليؤكد العودة المصرية القوية لمحيطها الإفريقي، فأخذ السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي على عاتقه خلال رئاستة للإتحاد الإفريقي مسئولية حمل قضايا الشعوب الإفريقية إلى المجتمع الدولي من خلال مشاركته في عديد من المحافل الدولية؛ مثل القمة الروسية الإفريقية بسوتشي، وقمة مجموعة السبع مع إفريقيا بفرنسا، وقمة الحزام والطريق بالصين، والقمة السابعة اليابانية الإفريقية (تيكاد 7). كما جاء الطرح المصري المخلص والدؤوب للقضايا الإفريقية أمام تلك المنابر قاسمًا مُشتركًا بين المشاركات المصرية، مما أدى إلى استعادة مصر لزخمها وريادتها القارية.
وعلى الصعيد السياسي الداخلي، عمقت مصر انتمائها الإفريقي وهويتها الإفريقية؛ حيثُ أكد الدستور المصري الصادر في عام 2014 على الهُوية الإفريقية لمصر. كما أنشأ البرلمان المصري لجنة نوعية للشئون الإفريقية تُعنى بتعزيز البعد الشعبي والدبلوماسية البرلمانية في العلاقات المصرية الإفريقية. وبالإضافة إلى ذلك، دشنت الدولة المصرية منتدى أسوان للسلام والتنمية باعتباره منصة حوارية وتفاعلية رفيعة المستوى معنية بالتحديات التي تواجه القارة الإفريقية، والذي شهد في نسخته الأولى تدشين مركز الإتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد النزاعات، والذي اتخذ من القاهرة مقرًا له في تأكيد على رؤية الدولة المصرية إزاء تعزيز أمن واستقرار القارة الإفريقية وربط ملف الأمن بالتنمية المستدامة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، وضعت مصر على عاتقها مسئولية تحقيق طفرة نوعية في طريق التكامل القاري افي المجال الاقتصادي. فعلى المستوى القاري، تبنت مصر عديد من المشروعات التي من شأنها تعزيز التكامل بين الدول الإفريقية اقتصاديًّا وتجاريًّا؛ مثل مشروع القاهرة كيب تاون ومشروع الربط المائي الإسكندرية/فيكتوريا، وغيرها من المشروعات. كما استضافت مدينة شرم الشيخ القمة الاقتصادية للتكتلات الاقتصادية الإفريقية الثلاث: الإياك والكوميسا والسادك في يونيو 2015، وعلاوة على ذلك، استضافت مصر أيضًا منتدى إفريقيا بنسخه الأربعة، والذي يُعد أكبر ملتقى للإستثمار في إفريقيا، والذي يهتم بالفرص الإستثمارية المُتاحة للدول الإفريقية والعمل على كيفية تعظيمها. وكذلك، ساهمت مصر بجهود حثيثة في إطلاق وتشغيل منطقة التجارة الحرة القارية، والتي تم تدشينها خلال قمة الإتحاد الإفريقى الاستثنائية الثانية عشر، والتى عُقدت في 7 يوليو 2019 بنيامي، النيجر، تحت الرئاسة المصرية، بغرض تعزيز التجارة البينية بين الدول الأعضاء، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعة في إفريقيا وخلق سوق قاري للسلع والخدمات. واعترافًا بالدور المصري في إطلاق تلك المنطقة التجارية، حرص السكرتير العام لمنطقة التجارة الحرة القارية واميكيني ميني على استهلال أولى جولاته الخارجية بزيارة مصر في يناير الماضي. وعلى المستوى الثنائي، سعت مصر عبر مؤسساتها لتعزيز تجارتها واستثماراتها مع الدول الإفريقية في إطار خُطة متكاملة لتعزيز التواجد الاقتصادي المصري في الدول الإفريقية في إطار التحرك المصري الشامل في القارة الإفريقية.
على الصعيد الأمني، تصدرت جهود الدولة المصرية في القارة الإفريقية في مجال تعزيز الأمن والاستقرار، الذي يتعرض لهزات عنيفة تهدد أمن واستقرار المجتمعات الإفريقية وتقوض بنية وتماسك الدول الوطنية الإفريقية؛ حيثُ تشهد منطقة الساحل والصحراء تناميًّا ملحوظًا لنشاط التنظيمات الإرهابية. ولذا، أنشأت مصر المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لمجموعة دول الساحل والصحراء عام 2018. كما تم انتخاب مصر أكثر من مرة كعضو بمجلس السلم والأمن الإفريقي في إطار رؤية الدولة المصرية لصنع السلام وتعزيز الاستقرار في القارة الإفريقية، جنبًا إلى جنب مع رؤيتها الرامية لتحقيق التنمية المستدامة في شتى ربوع القارة باعتبارهما مساران متصلان ينبغى العمل عليهما معًا لوضع القارة الإفريقية في مكانتها المُستحقة على الخريطة الدولية.
ختامًا، إن نجاح الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي في العودة القوية والفاعلة للساحة الإفريقية يُعد بحق إحدى النقاط المضيئة التي استهلت بها الدولة المصرية الجمهورية الجديدة، والتي تُمثل تصحيحًا لمسار حيوي يتعلق بالمصالح المصرية في العمق الاستراتيجي الإفريقي. وإيمانًا وإدراكًا من القيادة السياسية المصرية بأن مصر وإفريقيا جزء واحد لا ينفصل، فإن أية محاولة لفصل مصر عن محيطها الإفريقي تُعد مؤامرة تستهدف جزءًا أصيلاً من الهُوية المصرية، وهي الهُوية الإفريقية.