بقلم: مصطفى متولي
مدير أول مشروعات واستشاري تحول رقمي
لعلك تتسأل الآن عزيزي القارئ عما أقصده بثنائية «البناء والتأمين». هل هي إحدى ثنائيات الفن والأدب كتلك التي رواها لنا تشارلز ديكينز في «قصة مدينتين»، أم نحن بصدد منهج علمي أو فلسفة جديدة يحاول هذا المقال إبراز مبادئها؟ وهل نحن بصدد ثنائية تضاد أم ثنائية تكامل؟ ولكن قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، دعنا نذهب في رحلة قصيرة في أدبيات «الثنائيات»، وما بها من جماليات.
الثنائيات: ما بين الأدب والسياسة
تناول الكتاب والأدباء على مر العصور كثير من الثنائيات المتلازمة في الحياة لتوضيح معانٍ عدة. فما بين الكلام والصمت … الموت والحياة … حديث الصباح والمساء، نجد التضاد الذي يوضح ويظهر الحال، ويبرز نقاط الاختلاف وتأثير كل منهما، كالفارق بين النور والظلام.
وإذ انتقلنا من عالم الأدب، بحثًا في تاريخ الدول عن ثنائيات مشابهة. نجد في غياهب التاريخ دولة آسيوية عريقة، تسمى الصين، يطوِّق حدودها سور عظيم قائم حتى الآن، يتفقده الوافدون من كل حدب وصوب. وقد كان سور الصين العظيم درعًا واقيًّا بأسواره العريضة المرتفعة وأبراج حمايته كخط الدفاع الأول لدى الصين لحماية مقدراتها وشعبها.
يقابلها النصف الآخر من الثنائي، وإن كان مغايرًا، رواية أكثر حداثة من أطراف القارة العجوز، القارة الأوروبية. حول جدران ضخمة حصينة تطوِّق مدينة طروادة وتحصن أهلها؛ لتكون منيعة على أهل أسبرطة. لكن تنهار وتنقض أبواب هذا السور، ليس من وطأة الضرب على جدرانه بمعاول، إنما بسهام المكر والخديعة ضد أهل طروادة، بعدما دُس لهم السم في العسل بدس الجنود في قلب «حصان طروادة الخشبي»، الذي أُرسل لهم كهدية سلام، وهي تحوي الغدر.
ثنائية إذا أمعنا النظر بفحواها، نجد صورها ماثلة في عالمنا الحالي. فما أشبه ذلك بتلك الديمقراطيات المزيفة التي تنادي بها بعض الدول الغربية. فهي قد تبدو مشابهة للديمقراطية الحقيقية في تحقيق مبادئ الحرية والحياة الرغدة؛ لكنها تحوي بداخلها التبعية المفرطة لفصيل ديني بعينه دون الآخر، مخطط طال عديد من دول المنطقة العربية، لكن شاء العلي القدير أن تنجو مصر بنفسها، ماضية قدمًا نحو خطة البناء، مستعيدة دورها الإقليمي في المنطقة العربية بنجدة شقيقتها ليبيا فيما بعد وغيرها من الدول الشقيقة.
الجمهورية الجديدة وثنائية «البناء والتأمين» المتكاملة
نجد في رحلة بناء الجمهورية الجديدة، رابطًا لمفهوم الثنائية، ولكن هذه المرة ثنائية غير متناقضة، بل متكاملة. وبالحديث عن التنمية، ربما تكون الثنائية المعتادة أو الدارجة هي البناء والتعمير، لكن النموذج المصري ما بعد ثورة 30 يونيو اقتضى ثنائية جديدة؛ ألا وهي البناء والتأمين. وأقصد بها الفلسفة التي انتهجها الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ أن كان رئيسًا للمخابرات الحربية. وهذا المقال ما هو إلا محاولة لوضع الأحداث الدائرة داخل مربع جمهورية مصر العربية وخارجها، منذ عام 2011 حتى يومنا هذا، في نسيج متجانس يوضح للقارئ فلسفة التكامل بين البناء والتأمين لما شهدناه في مصر خلال تلك الفترة.
جاءت الخطوة الأولى في البناء الحقيقي لمصر بالعمل على نطاق الدائرة الأوسع، وهي حماية أمن مصر القومي، وذلك من خلال بناء قدرات القوات المسلحة المصرية، الجيش الوطني المصري، بما يساهم في تعزيز حماية الحدود من الاتجاهات الأربعة، والبدء والاستمرار في وقف أي تسلل باطل إلى أراضي مصر.
وتبع ذلك الاستمرارية في تطوير قدرات الفرد المقاتل وعدته وعتاده، بل والاتفاق على زيادة إمكاناته على نحو غير مسبوق؛ لأن صاحب الرؤية يرى بلحاظ الرأي ما سيقع بعد وصول فصيل ديني متطرف إلى سُدة حكم أكبر وأعرق دول إفريقيا والشرق الأوسط والعالم. واستمر هذا البناء المتتالي والمتكامل لجيش مصر الوطني في فترة ما كان الرئيس السيسي مشيرًا أثناء الفترة الانتقالية بعد التخلص من حكم الفصيل المتطرف.
ومن بعدها، جاءت الخطوة الاستراتيجية بتحديث فلسفة مصر حول «التحرك نحو التنمية» وإنجازها في أسرع وقت ممكن، وذلك ببدء أعمال حفر قناة السويس الجديدة والانتهاء منها في وقت لا يزيد عن عام، والذي تزامن مع مرور العام الأول على تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية. فلم يعد أمام مصر متسع من الوقت لفقد فرص النمو والبناء، ولا سبيل أمامها إلا لبناء الدولة الحديثة الفتية، بمقدرات اقتصادية قوية وبسواعد مصرية خالصة وإرادة باسلة.
لكن، حتى هذه المرحلة من البناء، لم يستطع المواطن المصري استشعار الفائدة بشكل مباشر؛ فقد جرت العادة أن يكون دفع الضرر حقًا مكتسبًا في ظل وجود جيش وطني قوي، كما أن الشعور بالأمان في مصر هو شعور اعتيادي لدى المواطن المصري، يسري مسرى نهر النيل من الجنوب للشمال. ولا نغفل هنا ذكر دور المواطن المصري كشريك أساسي في التنمية، وأن رهان الرئيس على صمود هذا الشعب العظيم كان في محله منذ اللحظة الأولى.
عامًا تلو عامٍ، والدولة المصرية تمضي قدمًا نحو البناء والتنمية بخطة مدروسة ومُحكَمة، وفي عام 2016، بدأت الخطوة الثالثة لبناء مصر الحديثة بقرار بناء عاصمة إدارية جديدة تليق بمستقبل دولة عظيمة كمصر استطاعت أن تستعيد مكانتها رغم ما واجهته من أزمات وتحديدات متتالية. ورغم ذلك، واجه المشروع في بدايته بعض التحفظات والاعتراضات، بلغت حد المهاجمة، بعدم جدواه وصعوبة تنفيذه في صحراء جرداء. وتناست تلك الأصوات المعارضة ما حدث لمدينة نصر آنذاك في فترة الستينيات، التي كانت عاصمة إدارية جديدة لمصر وقتها، وتناسوا ما بها من زحام حاليًّا.
وبعد أكدت العاصمة الإدارية الجديدة على حقيقة قيمة الأصول الحالية وإمكانية تحويل رمال الصحراء إلى ذهب، بدأ المواطن المصري يلمس عوائد مباشرة مع بداية مشروعات البنية التحتية التي تزامنت مع بناء العاصمة الإدارية الجديدة. وفي خضم قرار صعب بتعويم الجنيه المصري للقضاء على السوق السوداء للعملة الأجنبية، استطاعت الدولة المصرية توفير السلع البترولية وخدمات الكهرباء بدون انقطاع لكافة القطاعات الاستهلاكية والصناعية، مع تصحيح مفهوم الدعم لدى المواطن.
واستمر الرئيس السيسي في تنفيذ رؤيته نحو البناء تدريجيًّا، بدءًا من الدوائر الأوسع نطاقًا بحماية الأمن القومي للبلاد وصولاً إلى الدوائر الأقرب من محيط المشروعات القومية التي يتبناها ويبنيها؛ حيث بلغت التنمية محيط الطريق الدائري الإقليمي والأوسطي والطرق السريعة ما بين المحافظات والأقاليم. وبدأت القطاعات الصناعية والتجارية والسياحية في الانتعاش، بعدما انعكست عليها انعكاسًا مباشرًا فائدة مشروعات الطرق والكباري الجديدة التي تخدم الاقتصاد المصري. ومضى الجميع في استكشاف آفاق جديدة لمقدرات الدولة المصرية، وهو ما تحقق بالفعل في عام 2018. ولكن السؤال هل بدا ذلك كافيًّا للدولة المصرية؟
ونجيب بأنه منذ عام 2019 وحتى تاريخه، بدأت الدولة في الإسراع بالقضاء على العشوائيات غير الآمنة، وتفعيل المشروع القومي حياة كريمة لتطوير الريف المصري الذي يستهدف تغيير حياة أكثر من 50 مليون مواطن مصري في كافة أنحاء الجمهورية وتطوير ما يقرب 4500 قرية، بمشروعات بنية تحتية أساسية متكاملة لأول مرة شاملاً تبطين الترع المصرية بشرايين الأمل وبناء المدن العمرانية الجديدة للمستثمرين ومتوسطي ومحدودي الدخل، وبدء العمل على الطرق الداخلية التي تمس حياة المواطن العادي في الانتقالات اليومية، والسفر ما بين محافظة وأخرى. هذا بالإضافة إلى مجموعة المبادرات الرئاسية المجتمعية التي تبناها السيد الرئيس لتعزيز وتأمين مكتسبات مرحلة البناء، ليكتمل بها الجزء الثاني من فلسفة «البناء والتأمين».
فببناء الجمهورية الجديدة وجيشها وكافة مقدراتها لصالح كافة فئات المواطنين ولأجيال قادمة، استطاع الرئيس السيسي تحقيق مفهوم «التأمين الشامل» للدولة المصرية، بما ساهم في استعادة دورها الإقليمي واستقلالية قرارها السياسي ورسم خطوط حمراء للأعداء المتربصين بمصر على مربع حدودها الجغرافية العتيق. ولايزال الطريق حافلاً بمزيد من الإنجازات المرتقبة أمام ثنائية الدولة المصرية للبناء والتأمين، على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، آملين بأن ينافس الاقتصاد المصري قريبًا ضمن أفضل وأقوى اقتصادات العالم بحلول عام 2030.