بقلم: د. محمد سعيد أبو غزالة
لا شك أن ملف حقوق الإنسان من الملفات الشائكة التي تؤرق المجتمع الدولي على مستوى الدول المتقدمة والنامية. وفى سبيل ذلك، تم ترسيخ مبدأ عام ضمن مبادئ القانون الدولى العام؛ ألا وهو مبدأ «التدخل الدولي بغيّة الحفاظ على حقوق الإنسان» والذي يُعد سلاحًا ذا حدين. فالنظرة المجردة لهذا المبدأ توحي بإباحة التدخل الدولي من أجل الحفاظ على حقوق الإنسان المنتهكة داخل تلك الدول، إلا أنه في المقابل يُمكن للدول الكبرى استخدامه للنيل من مقدرات الدول الصاعدة أو التي تملك ثروات طبيعية، والماضي القريب ليس ببعيد.
والآن وفى ظل ثورة التنمية الشاملة داخل الدولة المصرية، والتي تهدف من وراءها بناء مستقبل يليق بمكانتها بين الأمم وبطموحات شعبها الذي قام بثورتين عامي 2011 و2013 مطالبًا بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبإعلاء قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، مما حدا بالدولة المصرية إطلاق «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان»، والتي اعتبرت مُكوِّن حقوق الإنسان ضمن المسار التنموي القومي لمصر الذي يرسِّخ مبادئ تأسيس الجمهورية الجديدة، وهو ما يدعونا لوصف الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بأنها بمثابة شهادة ميلاد الجمهورية الجديدة للدولة المصرية.
وتتكون الاستراتيجية من أربعة محاور عمل رئيسة تتضمن المفهوم الشامل لحقوق الإنسان ليشمل المحور الأول: الحقوق المدنية والسياسية، والمحور الثاني: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمحور الثالث: حقوق الإنسان للمرأة والطفل والأشخاص ذوي الإعاقة والشباب وكبار السن، والمحور الرابع والأخير: التثقيف وبناء القدرات في مجال حقوق الإنسان.
فلم تغفل مصر وهي على أعتاب تأسيس «جمهورية جديدة» أن تبدأ حقبة مستقبلية في تاريخها الممتد دون إعداد استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان إيمانًا بأهميتها في استمرار وتجدد الدولة الوطنية، وكذا تعزيز الجهود المتواصلة لضمان صون كرامة المواطن المصري، والتي تُعد أول إستراتيجية وطنية متكاملة طويلة الأمد فى مجال حقوق الإنسان، تهدف منها الدولة النهوض بحقوق الإنسان من خلال تعزيز الحقوق والحريات والتغلب على التحديات المتراكمة والتصدي لها في المشهد العام المصري.
وتعد الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان نتاج أعمال اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان والمنشأة بالقرار رقم 2396 لسنة 2018 الذي نص في مادته الثالثة على أن من اختصاصات اللجنة «وضع استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان وخطط العمل لتنفيذها من قبل الجهات المعنية ومتابعتها»، وبالتالي لم تقف أعمال اللجنة عند هذا الحد، وإنما هي مجرد بداية.
وقد انتهجت الاستراتيجية ثلاثة مسارات تهدف من خلالهم إحراز النتائج المستهدفة من أجل الحفاظ على حقوق الإنسان. وهي مسار التطوير التشريعي، ومسار التطوير المؤسسي، وأخيرًا مسار التثقيف وبناء القدرات فى مجال حقوق الإنسان.
كما حددت الاستراتيجية إطارها الزمني ليمتد أفقها حتى سبتمبر 2026، مع الوضع في الاعتبار أن بعض القضايا تستوجب مواصلة بحثها في الاستراتيجية القادمة.
ولا يغيب عن أذهاننا توجه الدولة نحو ترسيخ حقوق الإنسان من خلال المؤتمر الذي نظمه المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في إبريل الماضي تحت مسمى «حقوق الإنسان: بناء عالم ما بعد جائحة كورونا»، وذلك بحضور رفيع المستوى من الوزراء وكبار المسئولين وممثلين عن المنظمات التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى مشاركة واسعة من منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال التنموي.
وقد ناقش هذا المؤتمر عديد من الملفات الهامة التي تؤكد إرادة الدولة القوية نحو تأسيس وترسيخ خطتها التنموية بما يتماشى مع النظرة الشمولية لحقوق الإنسان.
ولا مناص من الدور المحوري لكلٍّ من المجلس القومي لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني في مجال ترسيخ المبادئ ذات الصلة بحقوق الإنسان ونشر الوعي بها، وإيمانًا من رئيس الدولة بهذا الدور المحوري تم إعلان عام 2022 عامًا للمجتمع المدني.
وقد لاقى تدشين الدولة المصرية لاستراتيجيتها الوطنية لحقوق الإنسان ترحابًا وارتياحًا على المستوى الدولي لتؤكد للمجتمع الدولي جدية الدولة المصرية في التطوير، واحترامها لجميع التزاماتها التعاهدية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وختامًا، لم أجد أفضل من فكرة توجه الدولة لتطويع خطتها واستراتيجيتها التنموية حسب التصنيفات الدولية لحقوق الإنسان، والذي يُعد من ناحية خطوة استباقية تشير وبصدق إلى قراءة متأنية للمشهد العالمي، ومن ناحية أخرى رسالة للعالم أجمع إلى ضرورة إعادة النظر إلى المفهوم الشامل لحقوق الإنسان وعدم اقتصاره على حقوق بعينها.