بقلم: أسمة علي
انطلق صوت شريفة فاضل من راديو التاكسي الذي استقله في إحدى ليالي القاهرة الصيفية:
أسمر يا سمارة ….. يا أبو دم خفيف
حبيتك يا سمارة ….. وأنا قلبي ضعيف
وأنا استمع للسائق بلهجته الريفية الممزوجة باللهجة القاهرية، وقد انطلق في تعليقاته حول موجة فيروس كورونا القادمة، إن كانت ستكون أشد فتكًا أم لا؟ وقد ابتسمت طويلاً لتعليقاته الساخرة وسرحت بذهني كم إن إذاعة الأغاني قد اختارت اللحظة المناسبة لإذاعة الأغنية. فهذا «الأسمر أبو دم خفيف» قد أمطرني بنِكات وتعليقات ساخرة عن فيروس كورونا وعن رؤيتنا كمصريين لهذا الفيروس الذي حير العالم، ولكن نحن من قررنا أن نقتله «ضحكًا».
انتهت رحلتي معه، وأنا أفكر متى كانت أول نكتة قالها الإنسان؟ ولماذا يتفرد المصريون بروح الفكاهة الأكبر؟ وما الموقف الذي فجر هذا الإبداع الكوميدي غير المتناهي؟ ومتى تحولت روح الفكاهة أو «خفة الدم» لسخرية لطيفة، ثم إلى سخرية لاذعة؟ هل هو بفعل جينات خُلقنا بها، أم إن المواقف على مر السنين هي التي خلقت هذه الكوميديا داخلنا وقد توارثناها جيل بعد جيل؟ والأهم، هل شريفة فاضل أحبته لأنه أسمر أم لأن دمه خفيف ويضحِكُها؟ أم أن الأمر يرجع بالأساس لقلبها الضعيف؟!
الفكاهة كشعور إنساني
يرى سيجموند فرويد أن «الفكاهة أعلى مظهر لآليات التكيف لدى الفرد»، وقسَّم النِكات إلى نوعين: «النكتة البريئة» أو بدون حافز، و«النكتة المغرضة» أو تلك التي يحركها دافع، وفي كثير من الأحيان تكون طريقة لإظهار الحقائق التي لا يمكن قبولها بطريقة أخرى. فالضحك هو وسيلة لإطلاق التوتر العاطفي، والنكتة هي وسيلة عبقرية للتعبير عن مكنونات النفس البشرية في المواقف الحياتية المختلفة.
وهكذا أوجدت البشرية النكتة والسخرية، وعبرت عنها بما أُتيح لها من أدوات عبر العصور؛ فتدرجت من كونها شفهية، إلى مكتوبة، ثم مصورة كرسوم على الجدران والورق، وصولاً إلى المجلات الساخرة وفن الكاريكاتير والأفلام الكوميدية والمسرحيات. كما يزخر الأدب بكثير من الروايات والكتب الكوميدية الساخرة. وتربَّع المصريون على عرش الكوميديا والنكتة بأنواعها على مر العصور.
منحة إلهية توارثناها جيل بعد جيل
أعتقد المصري القديم أن العالم خُلق من ضحكة الإله؛ فعندما ضحك وُلد سبعة آلهة ليحكموا العالم، ثم انفجر ضاحكًا مره ثانية، فكان الضياء، وفي آخر ضحكة وُلدت الروح. واحتفظت لنا أوراق البردي وجدران المعابد بحكايات ورسومات كوميدية ساخرة امتزجت بها الحكمة والذكاء لنقد الأوضاع التي يعيشونها. فكما يرى عالم المصريات والآثار الدكتور زاهي حواس في كثير من مقالاته أن الفنان المصري القديم حرص على نقل الأوضاع المحيطة به بشكل كوميدي ساخر. كما خصص المصريون القدماء إلهًا للضحك والمرح؛ وهو الإله «بس» الذي وجد تمثاله الأشهر بمعبد دندرة غرب قنا.
وكما يقول المثل المصري «العرق يمد لسابع جد»؛ فإن الأيام والأزمنة مرت زمنًا تلو الآخر، والمصري يستعين بخفة دمه مخففًا من وطأة ضغوط الحياة تارة، ومستمتعًا بجمال الحياة تارة أخرى. وفي كتاب «هيردوت يتحدث عن مصر”، يشير الكاتب صقر خفاجة إلى أن الشاعر الروماني ثيوكربتوس قال: «المصريون شعب ماكر لاذع القول، وروحه مرحه». وأجدني مؤيدة لهذا القول تمامًا؛ فمرورًا بكل العصور والحضارات التي تعاقبت على أرض مصر وما وصلنا عنها، نجد أننا نتحدى الألم بالضحك، وأوجدنا لكل تصرفٍ منافٍ للطبيعة والأخلاق، تنبيهًا لصاحبه بالنكتة والسخرية.
نحن ماكرون حقًا في استخدام الكلمات لنجعلها مضحكة، وفي باطنها رسائل ضمنية نعنيها. فإذا أراد المصري أن يسخر من الإهمال يقول «المال السايب يعلم السرقة»، أو «فاتت ابنها يعيط وراحت تسكِّت ابن الجيران»، وإذا أراد أن يسخر من الكسل يقول «رأس الكسلان بيت الشيطان»، و«أكل ومرعى، وقلة صنعة». أما عن سخريته من التكبُّر، فهي «من بره هالله هالله … ومن جوه يعلم الله»، وإن قام بعمل ولم يكن مجديًّا يعلق ساخرًا «يا دي الشيلة يا دي الحطة رحت على جمل وجيت على قطة».
الأدب والفن ملونًا بروح النكتة المصرية
في عهد الخديوي إسماعيل، ظهرت أول مجلة فُكاهية ساخرة بعنوان «أبو نضارة»، ثم تبعتها مجلة «التنكيت والتبكيت» للكاتب الساخر عبد الله النديم، عام 1891، والذي تم نفيه نتيجة لكتابته الساخرة وشديدة الهجاء التي انتشرت بين البسطاء وأطياف الشعب وقتها. وعندما عاد من المنفى أصدر مجلة «الأستاذ» التي أتخذت طابعًا ساخرًا اجتماعيًّا، انتهى للسخرية السياسية من الإنجليز، فتم نفيه مرة ثانية. وهكذا عرف المصريون أداة ومتنفسًا لمقاومة الاحتلال وأعوانه في هذا التوقيت مستخدمين إرثهم الفكاهي. كما خرجت أمثلة كثيرة زخرت بها الساحة المصرية من مجلات وصحف وجرائد؛ مثل مجلة «حمارة منتيتى» لصاحبها محمد توفيق، ومجلة «خيال الظل» لأحمد حافظ عوض، ومجلة «الكشكول» التي أسسها سليمان فوزي، ومجلة «1000 صنف» لبديع خيري، ناهيك عن الصحف والجرائد الكبيرة؛ مثل الأهرام، وأخبار اليوم، وروز اليوسف، التي أفسحت المجال لرسوم الكاريكاتير والمقالات الساخرة. كما ظهرت أغاني المونولوج التي سخرت من الواقع بشكل غنائي منذ ظهوره على مسارح القاهرة في القرن العشرين. وأيضًا الكوميديا باستخدام العرائس؛ فظهرت شخصية «الأراجوز» التي في الأغلب تقود مسرح العرائس وتقدم الأمور الحياتية اليومية التي تواجه الناس بشكل فكاهي ساخر مقدِّمًا النصيحة بصوره بسيطة.
وأبدع أبناء مصر بخفة دمهم مقدمين لمصر والمنطقة تراثًا ضخمًا في الأدب والفنون بكل أنواعها، أبرزهم سيد درويش، وبيرم التونسي، وعلي الكسار، ونجيب الريحاني، وبديع خيري، وشكوكو، وإسماعيل ياسين، وأنيس منصور، وصلاح جاهين، وفؤاد المهندس، ورمسيس، وأحمد طوغان، وعبد المنعم مدبولي، ويوسف إدريس، وعادل إمام، وأحمد رجب، ومحمد صبحي، وغيرهم من الرموز الخالدة بذاكرتنا المصرية. ولايزال أبناء مصر يقدمون للتاريخ الكثير ليسجله عن إبداعاتهم المصدِّرة للبهجة.
الحضور المصرى في العالم الافتراضي
سواء كان الأمر يتعلق بالسياسة، أو الرياضة، أو الأوبئة، أو حتى الحروب، فلا يمر أي حدث على الإطلاق مرور الكرام بالنسبة للمصريين في العالم الافتراضي. ولكل حدث جاري كوميكس (comics)، أو قصص مصورة ساخرة، خاصة به عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والأمر ليس قاصرًا على الكوميكس فقط، بل نجد ترندات ومنشورات متنوعة وكثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تعكس المواقف الحياتية اليومية للمصري صاحب الحس الفكاهي بطبعه. فهذا هو حال المصريين دائمًا وأبدًا؛ فلماذا لا نطوع تلك الأداة الجديدة لتناسب روح الفكاهة التي نمتلكها.
ولكن أصبحت كثير من تلك الكوميكس والمنشورات مادة موجهة لخلق حالة معينة، سواءً اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا، من قبل بعض القوى والدول المعادية لافتعال الأزمات أو تضخيم أحداث بعينها. وهكذا أصبحت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لحروب الجيل الرابع، إما باستخدام الشعوب لتدمير نفسها أو باستغلال القوى المعادية لهذه المنصات كمنابر لها تحض من خلالها على الإرهاب وتنشر الشائعات. فقد يتم استخدام النكتة والفكاهة لترويج الأكاذيب وبث الأفكار المسمومة وسط رواد مواقع التواصل الاجتماعي. وبالرغم من هذا، فإن المصري مواطن واعٍ قادر على التمييز بين حس الفكاهة الصادق، وبين كل ما هو مسموم وإن استتر في صورة نكتة، وقادر على أن يلفظ أي سلوك دخيل ليس من تكوين شخصيته المرحة. فسرعان ما نجد أي محاولة مغرضة كهذه، تسقط من الذاكرة، كما سقط قبلها آلاف الأعداء والمريدين بمصر السوء، على مر التاريخ.
فضحكتنا متفردة، وسخريتنا مميزة، مليئة بالحكمة وأثرها الحضاري ممتد حتى النخاع. فهي للبناء وللحب وللحياة، للتغيير والإصلاح. «باختصار علينا نكتة إنما إيه أورجانك!».
يعد هذا المقال ضمن من سلسلة مقالات تسبر أغوار الشخصية المصرية لتكشف عمَّا في جوهرها من كنوز اجتماعية وثقافية.