بقلم: د. آلاء فوزي
في عيادة الطبيب النفسي فتاة شابة في الخامسة والثلاثين تعيش حياة أسرية وعملية يحلم بها الكثيرون، لديها وظيفة مرموقة وزوج وأبناء شبه مثاليين، إلا أن الفتاة تشكو للطبيب قائلة: «يا سيدي أنا أحترق كل يوم، وأبكي كل ليلة، أغمض عيناي ليلاً، لكن عقلي مستيقظًا يشتعل بنار التفكير في ضغوط عملي، ومستقبل أبنائي وشرارة الحب التي انطفأت بيني وبين زوجي، وكأني أقف على صفيح ساخن يحرق روحي وجسدي؛ بينما يراني الناس أرقص على سطح ذهبي لامع، خاصة أن منشوراتي على فيسبوك وإنستجرام توحي بالسعادة والرفاهية الكاذبة، كما تحاصرني الأخبار الكئيبة التي أطالعها على صفحات التواصل الاجتماعي هذه الأيام، ما بين جرائم قتل وانتحار جميعها يصدر صرخة عالية … نحن نحترق! أخبرني ما الحل؟»
لماذا نحترق؟!
هذه القصة الحقيقية المتكررة لدى أغلب البشر في عصرنا الحديث أطلق عليها ظاهرة «الاحتراق النفسي» (Burnout) التي لاحظها عالم النفس الألماني الأمريكي هيربرت فرودينبرغر للمرة الأولى في عام ١٩٧٤؛ حيث وجد أن الانهاك النفسي الشديد كان عاملاً رئيسًا أدى إلى انزلاق عديد من رواد عيادته النفسية إلى هوة الاكتئاب وإدمان الكحوليات أو المخدرات، وقد وصل الأمر في الحالات الشديدة إلى مرحلة الانتحار أو ارتكاب جرائم عنف ضد الآخرين.
يلازم الاحتراق النفسي غالبًا أصحاب المهنة التي تجمع بين التفكير المضني والعمل الشاق؛ مثل المدراء والأطباء والضباط والسياسيين، لكن ثمة مؤشرات جديدة تؤكد وجود عدة حالات احتراق نفسي بين طلاب المدارس والجامعات.
مثال حي طالعناه منذ أيام قليلة عن قصة الطالبة الجامعية التي من المفترض أن تستشرف مستقبلها المشرق كطبيبة أسنان، ولكنها تعجلت الأمر وأحرقت سندات هذا المستقبل ملقية بنفسها من أعلى ستة طوابق في أحد المولات «الترفيهية». وتشير التقارير الأولية حول الحادث أن الضغط الأسري والمجتمعي كانا السبب الرئيسي في انتحار الفتاة حسب تصريحات صديقتها المقربة. ترى ما الذي دفع بهذه الفتاة الغرة نحو هوة الاحتراق؟!
تجيبنا عن هذا السؤال الدكتورة هينار محارم؛ المدرس المساعد بقسم علم النفس الإرشادي بكلية الدراسات العليا للتربية جامعة القاهرة؛ حيث أرجعت غالبية أسباب الاحتراق النفسي لدى المراهقين إلى انخفاض الدوافع، ووجود صورة سلبية عن الذات. وتضيف د. هينار إن الاكتئاب صار اضطرابًا شائعًا بين المراهقين ومتصلاً غالبًا بالصعوبات الدراسية. وهناك أيضًا شخصيات ساعية نحو الكمال، تضع نفسها في ضغط وتوتر شديدين للوصول إلى معايير إنجاز غير واقعية. كما يرتبط هذا الأمر بإدراك الطالب نفسه لمطالب والديه وشعوره بالضغط الأبوي لتحقيق النجاح العلمي والاجتماعي، ومقارنته دائمًا بأقرانه، ما يعزز لديه الإحباط والشعور بالنقص.
كما أشارت د. هينار إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تعطي رسائل خفية دائمة للأفراد بعدم الكفاءة وعدم الكفاية، وأغلب المتأثرين بذلك هم فئة المراهقين، ما يسبب لهم ضغوطًا إضافية ومزيدًا من الاحتراق النفسي.
الوقاية خير من العلاج:
تقدم دكتورة هينار محارم وصفة متخصصة ثبتت فعاليتها في وقاية النفس البشرية قبل وصولها لمرحلة الاحتراق، عبر ممارسة بعض الأنشطة السارة مثل: مشاهده فيلم أو مسرحية محببة.
الاسترخاء وشرب مشروب ساخن.
ممارسة الرياضة المنزلية.
سماع الموسيقى.
المشي لمسافات طويلة.
النوم المنتظم.
ممارسة هواية (قراءة كتاب أو رواية).
ويستطيع كل فرد أن يحدد بنفسه الأنشطة التي تجعله سعيدًا أو تخرجه بشكل مؤقت من دائرة الضغوط اليومية. كما يمكن الحصول على بعض برامج «التنظيم الذاتي» التي تساعد الإنسان على التحكم في أفكاره ومشاعره وسلوكه، واكتساب «التفاؤل المتعلم» عبر التدرب على التوقع الجيد للمعطيات، والثقة، والتفكير الإيجابي في توابع الأمور.
وبالإضافة، للرؤية النفسية المتخصصة السابقة، فقد سألت أصدقائي على صفحتي الشخصية على فيسبوك حول أفضل الطرق المتبعة لديهم للحصول على السلام النفسي، وقدم معظمهم إجابات مفيدة تتعلق بالتأمل، والروحانيات الدينية، والتفكير الإيجابي، والابتعاد عن «الشخصيات المؤذية»، ومرفق لديكم بعض هذه التعليقات التي تحمل أفكار ملهمة.
ارحموا من في الأرض:
جميعنا مسئولون عن مساعدة الآخرين حتى لا يسقطوا في فخ الاحتراق النفسي، من خلال ممارسة «الفضفضة» ذلك النشاط الاجتماعي الذي نفتح فيه قلوبنا، ونعبر عما يقلقنا، وقد أثبتت عديد من البحوث العلمية أن مجرد الحديث مع شخص مقرب يخفف القلق ويجدد الطاقة لمتابعة الحياة، لكن الأمر المؤسف أن عديدًا من الأشخاص لا يجدون من يستمع إليهم!
أدعو نفسي والجميع خصوصًا في بيئة العمل الشاقة، أن نحيي فطرة «التراحم الإنساني»، كأن ينظر المدير والموظف لبعضهم كبشر لديهم عواطف، لا كآلات حديدية. إذا وجدت زميل على حافة الانفجار بادر بالاستماع إليه، بدلاً من لومه على عدم إنجاز العمل. هذه الدعوة للتراحم لا تعني التراخي وتحويل بيئة العمل إلى «مندبة» بقدر ما هي دعوة للتوازن بين متطلبات البشر والعمل.
دعونا نعيش معًا حياة أفضل وننقذ الأرواح من الاحتراق والعقول من الإنهاك. لنعي المعنى الراقي في الكتاب المقدس: (الرَّحمَةُ تُبْنى لِلأبد وفي السَّمَواتِ ثَبَّتَّ أَمانَتَكَ). ونلزم الحديث النبوي الشريف: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى».