بقلم: د. أحمد عوض بيصار
مدرس واستشاري الأشعة التداخلية
كلية الطب – جامعة الزقازيق
لم يكن الخليفة الأموي الأندلسي عبدالرحمن الناصر على علم حين بنائه لمدينة الزهراء، عاصمة له بجوار قرطبة، أنها ستكون مولدًا للعالم الأندلسي الكبير «أبو القاسم الزهراوي»؛ صاحب الكتاب الأشهر «التصريف لمن عجز عن التأليف». وهو أول الجراحين وأعلاهم شأنًا، وأول من ذكر الجراحة كفرع من فروع الطب بعد أن اعتبرها أبقراط، ومن بعده ابن سينا علمًا أقل شأنًا من الطب، بل إن الأمر لم يستمر من بعده حتى قررت الحكومة البريطانية فصل تخصص الجراحة عن الحلاقة. وقررت الجامعات في باريس ضم الجراحين ليقوموا بالتدريس في كليات الطب حتى يحصل الدراس بعدها على بكالوريوس الطب والجراحة معًا كما يفعل الأطباء اليوم.
ولكن الزهراوي لم يتوقف واخترع ما لم يسبقه فيه أحد من علم استمر لخمسة قرون من بعده، بل ووصل الأمر لوصفه ما يسمى بالحمل المنتبذ، أي الحمل خارج الرحم، وكيف يقوم باستئصال حصوات المثانة وعلاج انسداد قناة مجرى البول في تقنيات لازالت هي أصل ما يقوم الأطباء بفعله اليوم.
كانت تلك هي المحطة الأولى للبشرية نحو الطب الحديث ذلك الذي استمر على نهج الزهراوي في تطور للجراحات وعلوم الأعشاب والأدوية، حتى استطاع جون سنو؛ طبيب الملكة فيكتوريا، توليدها بدون ألم باستخدام عقار الكلوروفورم. وهنا أمكن للجراحين القيام بجراحات أكثر خطورة لأعضاء الجسم الداخلية بدون ألم. إلا أن الأمر قد أفسده انتشار العدوى والتهابات ما بعد الجراحة، تلك التي استطاعت البشرية التغلب عليها عبر اكتشاف البكتيريا على يد لويس باستور، واكتشاف المضاد الحيوي البنسلين على يد ألكسندر فلمنج.
أما ذلك التحول الرابع في الطب، فكان في الفيزياء عندما اكتشف رونتجن أشعة إكس، واستطاع تشخيص كسور العظام بدقة، بل وامتد الأمر لتشخيص الحصوات والتهابات الرئتين.
لم نكن نعرف الكثير ، ولكن ما أعرفه هو أن ما درسته منذ عشرين عامًا في كلية الطب أصبح اليوم تاريخًا. وأن ما ذاكرته منذ عشر سنوات في مرحلة الماجستير أصبح اليوم تاريخًا، وأن ما أدرسه اليوم سيصبح تاريخًا لنا بعد خمس سنوات.
اليوم وقد تخيلتُ ذلك اليوم الذي سيطلب مني المريض أن أقوم بزراعة دعامة معدنية لا يتخطى قطرها 1 ميللي وطولها 5 ميللي في أحد شرايين دماغه لأتشارك مع زميلي في تقديم الخدمة الطبية، الحاصل على شهادته من كلية الهندسة، مع زميلي المبرمج خريج كلية الحاسبات والمعلومات، مع متخصص آخر في البرمجة العصبية لنتشارك في «تعريف» الدعامة المزروعة على عقل المريض المصاب بشلل رباعي على عقله؛ كي تقرأ أفكاره بدون أن يرفع صوتًا فيمنح الأمر هنا وهناك، بل ويكتب الخطابات البريدية على الحاسب ويأمر الأبواب والمنافد بالفتح أو الانغلاق.
أما الطبيب الألماني «فيرنر فورسمان»، عندما حاول إدخال تلك القسطرة الرفيعة عبر أوردة ذراعه لتصل إلى الأذين الأيمن لقلبه وصعد بنفسه درجات السلم ليصل لجهاز الأشعة السينية ليصور القسطرة بداخل صدره كأول محاولة ناجحة لقسطرة القلب طُرِد على إثرها من المستشفى، فلم يكن يتخيل أنه وبعد ثلاثين عامًا سيحصل على نوبل وأنه بعد مئة عام قد أصبحت الروبوتات هي من تقوم بقسطرة القلب، بل وامتد الأمر لابتكار روبوت يقوم بإجراء قسطرة دقيقة لشرايين المخ الأكثر صعوبة.
لم نكن نعلم أننا سننتصر اليوم في معارك كثيرة على السرطان ولكننا سنخسر معاركًا أشد إيلامًا، ولم نكن نعلم أن أمراض الإنسان قد صارت آلافًا مؤلفة ولم نكن نعلم أن الأمر قد صار سجالاً بين الذكاء البشري. وبين الطبيعة التي أعطتنا الفيروسات والبكتيريا والفطريات ومسببات الأمراض المختلفة تلك التي تحاول أن تذهب بالإنسان إلى شقاء الألم وصعوبته دون الطب، والذي هو تلك الحياة التي أمر الله بالحفاظ عليها وصونها.