بقلم: حسام الشافعي
لمحات تاريخية عن الدبلوماسية المصرية:
كون مصر على رأس مؤسسي حركة عدم الانحياز عام ١٩٦٠ بعد نضال مرير خاضته الشعوب الأفريقية والأسيوية واللاتينية وكتبعات مباشرة لاجتماعات باندونج منذ ١٩٥٥ بعد الحرب العالمية الثانية، قد كان له أبلغ الأثر على تثبيت أقدام الدبلوماسية المصرية التي كان يتولاها، إما تابعي الحكم العثماني من العائلة العلوية أو الحماية البريطانية نفسها، ما أفقد مصر الهوية الدولية في تلك الفترة من الزمن، في حين أن مصر هي من أرست قواعد الدبلوماسية العالمية منذ قديم الأزل برحلاتها التجارية ووضعها كمنارة حضارية وثقافية تحتوي جنسيات العالم أجمع.
وتلى ذلك مرحلة الشد والجذب ما بين المعسكر الشرقي والغربي حول التواجد في مصر والتأثير في سياساتها في ظل التواجد الإسرائيلي في سيناء، مما أدى إلى ظن متأصل في نفوس المعسكرين كليهما بأننا في احتياج إليهم، ولكن تمت الخطة بذكاء شديد بعد الطرد غير المتوقع للخبراء السوفييت عام ١٩٧٢ للحفاظ على أسرارنا العسكرية وللأحكام، والسيطرة على خطة التمويه المصرية العبقرية؛ حيث استوعبنا حينها أنه لن يساعدنا أحد لرفع رؤوسنا في حين أنهم لن يغرقوننا لاحتياجهم إلينا إلا أن المصري الأبي لا يقبل إلا أن تكون رأسه مرفوعة بكل كرامة وشهامة.
تلى ذلك ثلاثون عامًا اتبعت فيها السياسة الخارجية المصرية استراتيجيتي الاستقرار وعدم التغيير واللذين تسببا في احتساب التبعية على مصر تجاه المعسكر الغربي بشكل كبير، لدرجة أن العلاقات الروسية المصرية استعيدت ببطئ شديد، إلا أنه لم يكن هناك تعاون قوي حتى أن ذلك من الأسباب الرئيسية التي استخدمت لتأجيج مشاعر المواطن المصري أثناء أحداث يناير ٢٠١١، فدائمًا المواطن المصري يعي لوضعنا الخارجي، كما يعي لسياساتنا الداخلية على التوازي.
تراجع وخفوت:
وتلى ذلك فترة ما بين ٢٠١١ إلى ٢٠١٣ التي حاولت فيها الحركات الأصولية والإرهابية أيضًا توجيه العلاقات الدولية المصرية تجاه دول تتبنى وتحتضن الفكر الإرهابي للدرجة التي تصور فيها البعض أن الحضارة المصرية، ذات الأعمدة السبعة لشخصيتها، المنفتحة على العالم كله ستصبح تحت حكم إرهابي متطرف للأبد، ووجدنا من مهازل البروتوكول السياسي ما يضحك المهرجين حين قامت إحدى سفيرات الدول الغربية بزيارة مقر جماعة إرهابية لإملاء السياسات المستقبلية والتعاون معهم، كما رأينا رأس إحدى الدول التي تحلم بأن تضع أزهرنا الشريف تحت سيرتها يخطب من داخل الأزهر الشريف في فترة وجود مرسي، وكذا مؤتمر الصالة المغطاة الشهير لدعم الكيانات الإرهابية في سوريا.
لكن الوعي الجمعي و الحس الدبلوماسي الفطري للمصريين هو ما حرك جميع فئات المجتمع المصري في ثورة ٣٠ يونيو نحو رفض وهدم كل تلك المخططات برمتها.
الدبلوماسية التوسعية في الجمهورية الجديدة:
لكن الرئيس عبدالفتاح السيسي؛ رئيس جمهورية مصر العربية أعطى معنى جديدًا ومميزًا حين ألقن أحدهم درسًا بمنتهى الدبلوماسية والحكمة حين وجه مخاطبة سيادته له وللعالم «نحن لسنا كأوروبا او كأمريك، ونحن دولة أو منطقة لها خصوصيتها، ولها طبيعة خاصة تتميز بها وتتسم بها»، وأشار سيادته إلى فشل مشروع الربيع العربي لتقسيم المنطقة في مصر.
بالرغم من التوسع في العلاقات الدبلوماسية المصرية منذ ٢٠١٤ ما بين القارات كلها، والتعامل النزيه والشريف في علاقاتنا السياسية، إلا أن هذه اللحظة كانت فارقة في تاريخ مصر، وأشعرتنا هاهنا أن مصر أصبحت لديها من القوى الشاملة ما يمكنها من الرد بوضوح ونزاهة وشفافية عن اختلاف محددات المجتمع المصري والعربي، وكذا تميز الهوية المصرية مما اتضح في علاقاتها وقدرتها على فرض محددات الأمن القومي التي تناسبها، حتى لو لم تناسب قوى العالم الأخرى، وما عنى أننا تعدينا مرحلة استخدام استراتيجية الانطلاق الحذر وتوجهنا نحو استراتيجية النمو من خلال التكامل والتنويع.
فاستفاقت النظم السياسية المتآمرة على بلادنا المحبوبة على صدمة شديدة «مصر تضع محدداتها السياسية»، وقبل أن تستفيق من هذه الصدمة، وجهت لها صفعة أخرى حين أثبتت مصر أنها تحدد الخطوط الحمراء لأمنها القومي ليس فقط بالقول والخطب الرنانة، بل بالفعل من خلال احترام القوانين الدولية، وكذا القوة الغاشمة التي تحمي حق كل مصري في كل مكان بالعالم، حتى أن الملفات الساخنة حاليًّا، مثل ملف سد النهضة فإن الجميع يترقب الآن لأن الدبلوماسية المصرية وضعت جميع دولي العالم في موقف حرج حين استجابت لكل مبادرات التفاوض، وكذا الاستجابة العبقرية لقوانين المجتمع الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة، والذي يضعنا في موقف أقوى دائمًا، ويجعل من يواجهنا متخوفًا لا يملك التنفيذ الميداني إلا بالشروط التي تناسبنا.
واتضح في المرحلة التي تلي ذلك أن الدولة المصرية توظف استراتيجية النمو من خلال التكامل منذ ٢٠١٤، والتي تسير عليها مؤسسات الدولة المصرية، وشهدنا بأنفسنا فواعلها الأقوياء من جهاز المخابرات العامة المصرية إلى وزارة الخارجية المصرية وكذا وزارتي التعاون الدولي والهجرة ودورهم التنسيقي مع مختلف الوزارات التي تعمل على الملفات الداخلية.
الوضع الجيوسياسي لمصر تم استخدامه باحترافية شديدة للتموضع في منتصف طرق السياسة الدولية والعمل والاجتهاد والتحرك الدؤوب للرئيس عبدالفتاح السيسي ما بين كثير من الدول، ونجاح مصر في تلك التحركات هو ما جعلنا نحدد الآن خطوطنا الحمراء التي تمس أمننا القومي، وهو ما جعل القوى الإقليمية والدولية تحسب له ألف حساب وتقف عنده بالفعل. فمسألة العمق الاستراتيجي حاضرة دائمًا لدى المصريين بالحس الدبلوماسي الذي يولد مع المصري الأصيل، ورأينا بأم أعيننا في عام ٢٠٢٠ التنفيذ الاحترافي له بشكل شمولي من خلال استخدام عديد من نظريات واستراتيجيات العلاقات الدولية مما جعل لنا يدًا عُليا في عدم توقع قراراتنا السيادية وتنفيذها ميدانيًّا على الأرض بنجاعه، وكذا الثقة في نزاهة وإنصاف العلاقات السياسية والدبلوماسية لجمهورية مصر العربية؛ للجمهورية الجديدة.